نحو قانون ملكية عقارية مستند لفلسفة تشريعية فلسطينية-

نحو قانون ملكية عقارية مستند لفلسفة تشريعية فلسطينية-

  • نحو قانون ملكية عقارية مستند لفلسفة تشريعية فلسطينية-

اخرى قبل 3 سنة

نحو قانون ملكية عقارية مستند لفلسفة تشريعية فلسطينية-

الدكتور عماد الابراهيم/ باحث في قوانين الأراضي والعقود

جرت بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية محاولات لم تر النور، لإصدار قانون ناظم للملكية العقارية في فلسطين،  تحت مسمى "مشروع قانون الأراضي"، وبصرف النظر عن الأسباب التي حالت دون إصداره في حينه، فإنه يتوجب أن يكون على رأس جدول أعمال المجلس التشريعي المنتظر،  إصدار قانون ناظم للأراضي وفق فلسفة تشريعية فلسطينية، في ظل أن القوانين النافذة المطبقة على الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة، متعددة المنابت والأصول، ولم تكن تستهدف حماية أملاك الشعب الفلسطيني على أرضه، إنما كانت ترمي إلى حماية مصالح الدول المسيطرة على الأرض الفلسطينية، منذ زمن الحقبة العثمانية، مروراً بحقبة الانتداب البريطاني ، والحكم الأردني للضفة الغربية، والإدارة المصرية لقطاع غزة، وانتهاء بواقع الاحتلال الإسرائيلي.

  لقد استمر العمل بالقوانين النافذة من الحقبات السابقة، بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية عام (1994) بموجب اتفاقية أوسلو، في حين صدرت بعض التشريعات الفلسطينية الفرعية المتصلة بالإطار المؤسسي لقطاع الأراضي، والوحدات العقار، وموضوعات المياه والمصادر الطبيعية، وحماية أملاك الدولة، مثل قانون ملكية الطبقات والشقق رقم (1) لسنة 1996،  والقانون رقم (1) لسنة 1999 بشان المصادر الطبيعية، والقرار بقانون رقم (6) لسنة 2010 بإنشاء سلطة الأراضي، والقرار بقانون بشان المحافظة أراضي وأملاك الدولة رقم (22) لسنة 2018 .

إن الحديث يدور عن قانون على درجة كبيرة من الأهمية لكل فلسطيني يعيش في هذا العالم، وذات أبعاد تاريخية واجتماعية، سياسية ودولية، اقتصادية ومالية، تنظيمية ومهنية، علاوة على البعد القانوني، والذي نجد من خلاله أن القانون الناظم للأراضي هو قانون استثنائي يتغذى على الكثير من القواعد القانونية المصنفة ضمن فروع قانونية عديدة، العام والخاص منها،  فالقانون الأساسي بالمادة (21) منه كرس الحماية للملكية العقارية الخاصة وجعلها مصونة لا يتم الاستيلاء عليها إلا للمنفعة العامة وفق القانون مقابل تعويض عادل، وقانون العقوبات النافذ  جرم الاستيلاء على عقار الغير بالمادة (448) منه ، والإطار المؤسسي لقطاع الأراضي يفرض منح الجهات الإدارية، كسلطة الأراضي ومجلس الوزراء، سلطة إصدار القرارات الإدارية لتحديد الأراضي ومسحها وتثمينها واستملاكها للمنفعة العامة، فيكون لصاحب المصلحة الطعن بها أمام القضاء الإداري إذا شابها أحد عيوب القرار الإداري، ولقانون الأراضي اتصال وثيق بنظام الملكية الحيازة والتصرف والشيوع والإفراز والشفعة، كذلك بأنظمة التركات الشرعية، كما تشكل قوانين وأنظمة السجل العيني العقاري جوهر قوانين الأراضي، لدورها في تثبيت الملكية، وقيد معاملات التصرف بالأراضي في صحيفة العقار، حفاظاً على مبدأ استقرار التعاملات العقارية، ولتكون القيود المستندة للسجل العقاري حجة بالنسبة لأطرافها والغير، علاوة على ذلك فإن للجانب المهني متسع في قانون الأراضي، فهناك الكثير من المهن العقارية المنظمة بموجب قوانين الأراضي، مثل مهنة المساحة والتخمين والوساطة العقارية.

فما هو إذاً قانون الأراضي، وما  هي مصادر قوانين الأراضي النافذة في فلسطين، وما هي الفلسفة التي انبنت عليها، وما هي الفلسفة التي يتوجب على المشرع الفلسطيني أن ينطلق منها في إصدار قانون ناظم للأراضي؟.

بداية نلاحظ أن المصطلح المستخدم "قانون الأراضي" تعوزه الدقة من ناحيتين، الأولى أن القوانين الناظمة للأراضي ليست قانوناً واحداً، إنما هي حزمة كبيرة من التشريعات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة في حقبات سابقة، والثانية مرتبطة بمصطلح "الأراضي"، فالقوانين النافذة تستخدم مصطلحات مرادفة مثل "الأموال غير المنقولة"، و "العقار"، فنصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (129) على أن " غير المنقول ما لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدور والأراضي مما يسمى العقار"، فيما وردت تعريفات عديدة للأرض في قوانين الأراضي، تشير في مجملها إلى أن الأرض تشمل ذات الأرض وما عليها من مباني و إنشاءات، لذلك نرى أن مصطلح "العقار" هو الأدق والأشمل، لأن مصطلح "الأرض" يوحي باقتصارها على سطحها وأتربتها وصخورها،  وعلى أي حال فإن قانون الأراضي يتكون من مجموعة القواعد القانونية المطبقة على الأراضي وما عليها من مباني وإنشاءات، الهادفة إلى ضبط نظامها القانوني، من حيث نشأتها وأنواعها والحقوق المترتبة عليها، وأسباب اكتساب ملكيتها وانتقالها ومسحها وتثمينها وإفرازها وتسجيلها.

وبالعودة إلى الموضوع الجوهري لهذه المقالة المرجعية، المتمثل بالفلسفة التشريعية التي انبنت عليها القوانين النافذة المطبقة على الأراضي في فلسطين، نجد أن تلك القوانين وإن كانت تشترك في أهدافها المتمثلة في حماية مصالح الدولة الحاكمة في كل حقبة، لكن هذه المصالح اختلفت من سلطة قائمة إلى أخرى، بحسب أهداف سيطرتها على أرض فلسطين، فنجد أن:

_الحقبة العثمانية (1516-1917): صدر إبانها قانون الأراضي العثماني لسنة (1858) ميلادي، النافذ في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحزمة القوانين والأنظمة والتعليمات المعدلة له، إضافة لمجلة الأحكام العدلية لسنة (1869) المعتبرة حالياً قانوننا المدني الساري في فلسطين، ومن استقراء نصوص تلك القوانين نجد أنها استقت أحكامها من مصدرين، الأول أحكام الفقه الإسلامي، كأحكام الوقف وإحياء الأراضي الموات، والمصدر الثاني هو القوانين الغربية الأوروبية، كنظام الانتقال المطبق على الأراضي الأميرية، وأنظمة التسجيل العقاري، وقد هدفت قوانين الأراضي في تلك الحقبة إلى توفير إيراد للخزينة العثمانية إضافة إلى مقاومة نظام الإقطاع، والفساد الذي اقترن بتثبيت ملكية الأراضي والتصرف فيها، من قبل المتنفذين في الولايات العثمانية.

_الحقبة الانتدابية (1917-1948): صدرت خلالها حزمة كبيرة من القوانين والأنظمة المتصلة بالأراضي وتسجيلها، تركز في ربط معاملات الأراضي بتنظيم المدن والقرى، وتسوية الأراضي وأنظمة المساحة والتسجيل، وتشديد القيود على نقل ملكية الأراضي وإحياء الأراضي الموات، فشهدت تلك الحقبة عملية المسح الشامل لأراضي فلسطين، وفق فلسفة تقوم على تفتيت نظام الأراضي المشاع، والسيطرة على الأراضي لتسهيل نقل ملكيتها للعصابات الصهيونية.

_الحكم الأردني للضفة الغربية  (1948- 1967): شهدت إصدار العديد من التشريعات المرتبطة بتسجيل الأراضي لإدخالها ضمن نظام التسجيل العقاري، وسن قوانين رسوم ت الأراضي و الضرائب العقارية، وقوانين تفويض وتأجير أملاك الدولة، وتنظيم المدن والقرى والأبنية، وفق فلسفة تستند إلى تثبيت الحكم الأردني للضفة الغربية.

_فترة الاحتلال الإسرائيلي (1967-1994): صدرت خلالها عشرات الأوامر العسكرية الصادرة عن سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي، اعتمدت فلسفة كولونيالية، تهدف إلى تغيير الواقع السياسي والقانوني للأراضي المحتلة، عبر إسباغ صفة خاصة على الأراضي لتسهيل مصادرتها، كالإعلان عنها أنها مناطق عسكرية أو أملاك حكومة أو مناطق طبيعية أو أملاك غائبين، ومن جهة أخرى تهدف إلى غل يد الملاك والمتصرفين الفلسطينيين، من خلال وضع القيود المتعلقة بالموافقات الأمنية على الصفقات العقارية،  ومنح الحاكم العسكري صلاحيات واسعة وحماية المشتري حسن النية، والتعديل في مدة نفاذ الوكالات الدورية إلى خمسة عشرة سنة، وما زالت جزء منها سارياً ، خاصة في المناطق (c) الخاضعة لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي.

وهكذا نلاحظ أن قوانين الأراضي النافذة في الضفة الغربية وقطاع غزة لم تكن تراعي مصالح الشعب الفلسطيني وأعرافه وتقاليده الموروثة المرتبطة بقطاع الأراضي والقطاع الزراعي، عدى عن ترسانة التشريعات والأنظمة والسجلات الخاضعة لها الأراضي، وتنوع الأنظمة القانونية الخاضعة لها، ما بين أراضي ملك وأميرية وموقوفة ومتروكة وموات، وارضي مالية وطابو، وأراضي تمت عليها التسوية الأردنية وأخرى لم تتم عليها التسوية، يضاف إلى تلك الأنظمة تقسيمات الأراضي بحسب اتفاقية أوسلو الموقعة عام (1994) إلى مناطق A  و B و C .

لنخلص إلى ضرورة أن ينطلق أي  تشريع مستقبلي للأراضي من فلسفة تشريعية فلسطينية، تروم حفظ مصالح الشعب الفلسطيني، وتراعي الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذا القانون الخطير، ويهدف على تحقيق التناسق والانسجام بين جملة القوانين الناظمة لها، ويتضمن إحالات واضحة وصريحة إلى القوانين والأنظمة الفرعية، ويلغي تصنيف الأراضي الأميرية لأن ملكية الدولة لرقبة الأراضي الأميرية لم تعد سوى ملكية نظرية بحته، وبما يضمن المعالجة الصريحة للخلط الذي كرسته القوانين السابقة بين الأراضي الأميرية وأراضي الدولة، كما يجب أن يعكس القانون الجديد السردية التاريخية المعنوية لحق الشعب الفلسطيني في أرضه أينما كان، ويؤمن الحماية لملكيات الفلسطينيين  في الداخل والشتات وفي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف.

إضافة لما سبق، فإن صناعة تشريعية لقانون موحد للأراضي، تحت مسمى "قانون الملكية العقارية" أو "القانون العقاري"، يجب أن تراعي الجوانب الموضوعية والإجرائية والآمرة لأحكامه القانونية، فأحكام الأراضي الموضوعية متناثرة في التشريعات والأنظمة النافذة، بشكل يثقل كاهل القضاة والمحامين، سواء تعلقت تلك الأحكام بالملكية واستعمالها واستغلالها والتصرف فيها بالبيع والرهن، والقيود الواردة عليها، أو بأحكام الشيوع والإفراز والشفعة والالتصاق والحيازة، كما أن الطبيعة الإجرائية للقانون العقاري تتطلب تنظيماً دقيقاً للمعاملات العقارية، يجاري التطور التكنولوجي الحاصل في أرشفة السجل العقاري الورقية والالكترونية، وما تتطلبه المعاملات العقارية من وثائق وأذونات، سواء كان موضوع المعاملة بيع أو رهن أو إفراز أو حجز أو تنفيذ قرار قضائي ببيع العقار بالمزاد العلني لمصلحة الدائنين أو لعدم قابليته للقسمة بين الشركاء.

 ومن جانب آخر فإن إصدار قانون موحد للأراضي في ضوء عمليات التسوية الجارية في الضفة الغربية، ينبغي أن يعكس الحاجة لمعالجة الثغرات الموجودة في قانون تسوية الأراضي والياه رقم (40) لسنة 1952، لأهمية هذه العملية في تأسيس سجل عقاري ذات حجية قانونية مطلقة، لا يجوز الطعن بالسندات العقارية المستندة لهذا السجل إلا للأسباب المنصوص عليها في ذات القانون، لتصبح الأراضي التي تمت عليها التسوية خاضعة لقواعد آمرة من النظام العام، ونشير هنا إلى الحكم الصادر عن محكمة النقض الفلسطينية " ولما كانت ملكية الأراضي التي تمت فيها أعمال التسوية هي مسألة من مسائل النظام العام في فلسطين الأمر الذي لا يجوز معه إجراء التحكيم في نزاع على الملكية سنداً لأحكام المادة (4) فقرة (1) من قانون التحكيم الفلسطيني". (نقض مدني رقم 149/2015 صادر بتاريخ 7/10/2018م).

كل ما تقدم دون إهمال البعد الاقتصادي للقانون الناظم للأراضي، وضرورات الإدارة الرشيدة لقطاع الأراضي، من حيث ضرورة ملاءمة نظام الأراضي مع النظام المصرفي واحتياجات المزارعين، وإدماج أراضي الدولة في خطة تنموية شاملة، لأنها أراضي ملك للشعب الفلسطيني يجب استثمارها وفق مصالحه، انطلاقاً من فلسفة تشريعية تراعي الخصوصية الفلسطينية في حماية الأرض من النهب والمصادرة، وما يتطلبه ذلك من ضرورات استثمار الأراضي الوقفية، وتطوير أنظمة تفويض وتخصيص وتأجير أملاك  الدولة، وتنظيم للعقود الزراعية كعقود المغارسة والمزارعة والإيجار الزراعي، وملاءمتها مع قوانين التمويل والرهن العقاري، والعقود في مجال البناء والإسكان.

ختاماً فقد آن الأوان لإصدار قانون عقاري فلسطيني، يعكس الفلسفة الوطنية الفلسطينية، بما يخدم قضيتنا العادلة، وأهداف التنمية والاستثمار لتثبيت المواطن الفلسطيني على أرضه، وان يتضمن التشريع الجديد حصراً للأنظمة العقارية المطبقة على الأراضي الفلسطينية، وتوحيداً للتشريعات والأنظمة العقارية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلغاءً صريحاً للأوامر العسكرية الجائرة بحق الشعب الفلسطيني، ويضم في فصوله وأحكامه القواعد القانونية المنظمة للتسوية والتسجيل الجديد وإزالة الشيوع، والأبنية والمجمعات العقارية، وإجراءات الاستملاك والتفويض والتخصيص والتأجير للأراضي لأملاك الدولة، وإجراءات البيع والإفراز والرهن والمسح والتحديد للأراضي، والقواعد الخاصة بالوكالات العامة والخاصة والدورية، والأطر القانونية المنظمة للحجز على العقارات، وتنفيذ أحاكم المحاكم في دوائر تسجيل الأراضي، بشكل منسجم وعصري يجاري التطور الحاصل في الأراضي الفلسطينية من النواحي التنظيمية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ويراعي الخصوصية الفلسطينية المرتبطة بحقوق ملكية اللاجئين والنازحين وأهالي القدس الشريف، التي كفلتها المواثيق الدولية والقوانين المحلية، والثابتة في سجلات الأراضي العثمانية والانتدابية والأردنية.

التعليقات على خبر: نحو قانون ملكية عقارية مستند لفلسفة تشريعية فلسطينية-

حمل التطبيق الأن